عن إفشاء الثقافة العلمية في المجتمع الجزائري
تعتبر القدرة على إيصال المعلومة التقنية لغير ذوي الإختصاص من المهارات المهمة التي يجب أن يمتكلها و يطورها أي باحث ، و هذا لأسباب عديدة ، لا سيما و أن البحث العلمي نفسه يتجه نحو طبيعة تتسم بالتداخل بين التخصصات ، فنرى مثلا أن أهم التطورات العلمية تنتج اليوم عن مجهودات تستلزم تقاطع الإختصاصات و بالتالي تحتاج إلى تفاعل بين باحثين من مختلف المجالات و إلى القدرة على التواصل بين مستويات تقنية مختلفة
في خضم ما روجته وسائل إعلامية جزائرية مؤخرا من إنجازات “طبية” و آراء “تقنية” بدعوى أنها علمية بينما هي مجرد أوهام و تضليلات للرأي العام، اتصل بي أحد الصحفيين متسائلا حول قلة عدد الباحثين الجزائريين الذين يستخدمون تقنيات التواصل الحديثة لترويج المعلومة العلمية الصحيحة . هو سؤال مهم و مثير للإهتمام فعلا ، و لكنني رأيت أن علينا النظر في سؤال أعّم و هو: لمذا لا يمارس الباحث الجزائري نشاطات التوعية العلمية بمعناها العام من خلال إقحام الجماهير و اجتذابهم إلى تخوم حقل تخصصه بما يجهزهم بقدرة على تفادى الوقوع في شباك العلم الزائف و يمكنهم من كشف زيف الصحافة شبه العلمية؟ و هذا سؤال يتعدى الحالة الخاصة في استعمال تقنيات التواصل الحديثة ، و محاولة الإجابة عنه ستعطينا فهما أوسع لإشكالية التواصل العلمي و ترقية الثقافة العلمية في مجتمعنا.
في البداية ، يجب علينا أن نعترف بشيئين أساسيين و هما ١) وجود شرخ كبير و مسافة شاسعة بين البحث العلمي و الصحافة في الجزائر؛ و ٢) إن هذا الشرخ عامل يضاف إلى القضايا التي تهدد مستقبل البلد. هذا الاعتراف هو النقطة الأساسية التي علينا أن ننطلق منها نحو إمكانية وضع قضية التواصل العلمي في الموضع الذي يليق بها في المجتمع
صحيح أن هناك أمثلة ممتازة بيننا اليوم للتواصل العلمي يقوم بها أفراد بعينهم و أخرى تقوم بها مبادرات مستقلة أذكر منها مبادرة وسام العالم الجزائري التي تقوم بهما مؤسسة المناهج و سلسلات “الكون” و “تأمل معي” للأستاذ نضال ڤسوم ، و مبادرتنا المتواضعة لجائزة أحسن منشورة علمية جزائرية و مجلة إنسباير التي تقودها الشكبة الجزائرية للأكادميين و العلماء و الباحثين منذ أربع سنوات الآن، و التي نقوم من خلالها بتشجيع الباحث الجزائري على التواصل العلمي من خلال مقابلات و مقالات موجهة للمتخصصين و لغير المتخصصين على حد سواء
لكن تنمية الثقافة العلمية عبر التواصل العلمي يحتاج إلى أكثر من مبادرات فردية و جمعوية برغم الدور بالغ الأهمية الذي تعلبه مثل هذه المبادارات . في نظري ما نشهده اليوم من تفشي لظاهرة الترويج للأفكار اللاعلمية ما هو إلا أعراض لمشاكل نظامية و منهجية في ثلاثة قطاعات رئيسية: الأوساط الأكاديمية ، المؤسسات الإعلامية و الحكومة. فتشخيص إشكالية الثقافة العلمية إذن يستلزم النظر في التفاعل بين هذه القطاعات الثلاثة و تفحص المكانة و الأهمية التي يحظى بها التواصل العلمي في كل قطاع من هذه القطاعات و مدى تفاعل بعضها ببعض لخدمته و ترقيته
فلكي تتفشى ثقافة التواصل العلمي بين الباحثيين الجزائريين لتصبح بدورها وسيلة لترقية الثقافة العلمية في المجتمع، لا بد من تحول منهجي في الطريقة التي ننظم من خلالها التفاعلات بين تلك القطاعات الثلاثة و بين المجتمع. سيصبح الباحث الجزائري أكثر فاعلية في هذا المجال إذن عندما تعترف تلك القطاعات بأهمية التواصل العلمي ثم تضمينه هيكليا في ممارساتها اليومية و الإستراتيجية . كحد أدنى:
١. يجب أن تكون التوعية العلمية و إقحام الجماهير جزء مما يمكن أن نطلق عليه النتاج الاستراتيجي للجامعات و المؤسسات الأكاديمية في أبسط أشكاله، و هذا يقتضي ان يقوم الباحثون في الجامعات و المراكز التقنية بعرض أعمالهم على مواقعهم ليسهل إقتناءها من طرف الصحافة و المهتمين ، و كذا القيام بعمل جواري يتمثل في تنظيم المعارض و الأيام المفتوحة التي تمكن الجمهور من الاطلاع بل و التفاعل مع ما هو معروض، و غير ذلك من الأنشطة لتبسيط و تعميم العلوم. ثم التوجه إلى مقاربة أكثر منهجية تتمثل في استحداث قسم خاص في كل جامعة يهتم بالتوعية العلمية و يقوم بتدريب الباحثين على التواصل العلمي و مساعدتهم في تنظيم نشاطات لمشاركة الجمهور و التواصل معه و بالتالي تقوم مقام حلقة وصل بينهم و بين الجامعة و بين المجتمع
٢. على قطاع الإعلام ( و جامعات الإعلام و الاتصال) السعي إلى تكوين صحفيين مختصين في الصحافة العلمية قادرين على تغطية الإنتاج العلمي للجامعات (و القطاعات الأخرى كالقطاع الصناعي) و كذا تمحيص مستجدات البحث العلمي لترويج ما يستحق الترويج و إعلام الجمهور عن المواضيع التي تهمهم من خلال طرح جدي لتلك المواضيع حتى تصبح فرص للازدياد من المعرفة لا وسيلة للتضليل
٣. القطاع الرسمي، أي في هذه الحالة وزارة التعليم العالي و البحث العلمي و مديرية البحث العلمي و التطور التكنولوجي – حين نأخد بعين الإعتبار مركزية سياسات الدولة في هذا القطاع – على هذه الهيئات أن تجعل التوعية العلمية واحدا من أهدافها الإستراتيجية على مستوى الممارسة، مثلا من خلال تقديم تحفيزات للجامعات و الباحثين عبر خطط مناسبة تحث على دمج أنشطة التوعية العلمية للزيادة من تأثير وقعة البحث العلمي على المجتمع. و كمثال ملموس، أذكر أنه ظهر في الآونة الأخيرة تغير واضح جدا في الطريقة التي يتم من خلاله تقييم طلبات المنح البحثية و تمويل المشاريع في كثير من الدول المتقدمة بحيث تعطى أهمية بالغة لما يعرف بعوامل التأثير (بما في ذلك التأثير على المجتمع و التوعية و التواصل العلمي) بحيث تشكل هذه العوامل عناصر أساسية من معايير تقييم الطلبات و المشاريع البحثية. و بهذا يفرض على الباحثيين التفكير بجدية، منذ بداية التخطيط للأبحاث التي سيقومون بها، في مدى و كيفية تأثير هذه الأبحاث على المجتمع و خصوصا على القطاعات التي لها علاقة بموضوعات الأبحاث تلك، بما في ذلك التفكير الجدي في الآلايات و الوسائل التي يمكنهم من خلالها تجسيد و تحقيق التأثير المصبو إليه
وجود هذا النوع من العناصر الهيكلية سيؤدي تلقائيا إلى تحفيز الباحث الجزائري على التواصل العلمي بأكثر فعالية حيث يصبح هذا الأخير جزء لا يتجزأ من العملية البحثية و امتدادا طبيعيا للقيام بالبحث العلمي. هذا النوع من التفكير هو ما أراه مفقودا حاليا في البيئة الأكاديمية و البحثية في الجزائر للأسف – أو في أحسن الأحوال أقل تطورا و يحظى باهتمام أقل من الجوانب الأخرى في هذا القطاع
طبعا هناك أيضا عوامل شخصية كعوامل الشغف بالتواصل العلمي فهناك من له موهبة و قدرة على الإبداع في استخدام التقنيات الحديثة للقيام بذلك . لكن علينا ان نتذكر أن التواصل العلمي الفعال مهارة تُكتسب و أن القدرة على الاستخدام المبدع لتقنيات التواصل الحديثة من مواقع اجتماعية و تدوين و ما إلى ذلك يعتبر أحد أجزاء الإشكالية فحسب . هناك صورة أكبر يجب علينا الوعي بها و استيعابها تتعين أساسا في قضايا تنظيمية و منهجية ينبغي أن نتناولها بجدية لحل إشكالية الثقافة العلمية و قضية التأثير الإيجابي في المجتمع من قبل الباحثين و العلماء؛ أي على المستويات الهيكلية للسياسات العلمية التي تنتهجها المؤسسات الأكاديمية و الهيئات الحكومية في البلاد و التي ينبغي إعادة صياغتها بحيث تجعل التواصل العلمي في قلب استراتيجياتها و ممارساتها ، تشجع من خلالها الباحث على أن يجعل التواصل العلمي امتدادا طبيعيا للعملية البحثية. سيؤدي مثل هذا التحول في نظري إلى تغيير في المواقف و الذهنيات و في ثقافة العمل الأكاديمي حيث يمتد هذا الأخير إلى المجتمع بطريقة عضوية ليجعله أكثر ملائمة و تقبلا للتواصل العلمي
إننا كمجتمع اليوم ، بسياساته و جامعاته و إعلامه ، نفتقر إلى رؤى بناءة تعطي أهمية معتبرة للتوعية العلمية و التواصل العلمي بل و لا نطرح هذه الإشكالية أصلا بالعمق الذي تفرضه. ما نراه من حلقات التفاهة العلمية عندما نفتح قنواتنا الإعلامية التي تصدمنا بين الحين و الآخر بترويج حقائق و اختراعات و أدوية لا تنتسب للعلم من قريبأ أو بعيد و ما نراه من تفشي للعلم الزائف في مجتمعنا ليس سوى أعراض لهذا التهميش و الافتقار لتسطير رؤى تضع العلم و من ينتجه في جوهرها؛ و في هذا خطر عظيم يهددنا بما يسببه من تضليل للمجتمع و بما يلحق ذلك من أثر وخيم على نمونا الثقافي و السياسي و الإقتصادي.